فصل: باب الوكالة في الدم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.باب الوكالة في الدم:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَتُقْبَلُ الْوَكَالَةُ فِي إثْبَاتِ دَمِ الْعَمْدِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لَا تُقْبَلُ.
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُضْطَرَبٌ فِيهِ ذَكَرَهُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَاهُنَا وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَلَا مَدْخَلَ لِلنَّائِبِ فِي إثْبَاتِ دَمِ الْعَمْدِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِاسْتِيفَاءُ، ثُمَّ التَّوْكِيلُ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَجُوزُ هُنَا مَعَ أَنَّهُ يُجْزِئُ فِيهِ النِّسَاءُ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ، إنَّمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْمَقْصُودِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ هَذَا أَحَدُ بَدَلَيْ النَّفْسِ فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِهِ كَالدِّيَةِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْضُ حَقِّ الْعِبَادِ، وَالنِّسَاءُ تُجْزِئُ بَيْنَ الْعِبَادِ فِي حُقُوقِهِمْ لِحَاجَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ إلَى ذَلِكَ، فَقَدْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِنَفْسِهِ، وَالْغَلَطُ مَتَى وَقَعَ فِي الْإِثْبَاتِ أَمْكَنَ تَدَارُكُهُ سَوَاءٌ كَانَ الثَّابِتُ الْقِصَاصَ أَوْ الْمَالَ وَبِهِ فَارَقَ الِاسْتِيفَاءَ فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِيهِ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَتَلَافِيه؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ فِيهِ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ.
فَأَمَّا إذَا وَكَّلَ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّهِ وَيَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهَا مَعَ الشُّبْهَةِ وَيَجُوزُ فِي اسْتِيفَاءِ الْوَكِيلِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ تَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ الْعَفْوِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ عَفَا، وَالْوَكِيلُ لَا يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ وَمَتَى وَقَعَ الْغَلَطُ فِي الِاسْتِيفَاءِ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا فَشُبْهَةُ الْعَفْوِ تَنْعَدِمُ بِحُضُورِهِ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَهْتَدِي إلَى الْقَتْلِ وَمِنْهُمْ مِنْ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَيْهِ فَلِلْحَاجَةِ جَوَّزْنَا التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِيفَاءِ عِنْدَ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ، وَالْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فِي ذَلِكَ.
وَإِذَا أَقَرَّ وَكِيلُ الطَّالِبِ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ صَاحِبَهُ يَطْلُبُ بَاطِلًا، أَوْ أَنَّهُ قَدْ عَفَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِأَنَّهُ قَدْ عَفَا؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ قَامَ مُقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْإِقْرَارِ بَعْدَ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ، وَكَذَلِكَ وَكِيلُ الْمَطْلُوبِ لَوْ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى صَاحِبِهِ فَفِي الْقِيَاسِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِقِيَامِهِ مُقَامَ مُوَكِّلِهِ فِي الْإِقْرَارِ فِي مَجْلِسُ الْحُكْمِ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ فَلَا نُوجِبُ الْقَوَدَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي الْحَقِيقَةِ ضِدُّ الْخُصُومَةِ، وَنَحْنُ وَإِنْ حَمَلْنَا مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي هُوَ خُصُومَتُهُ مَجَازًا فَتَبْقَى الْحَقِيقَةُ شُبْهَةً، وَالْقِصَاصُ يَسْقُطُ بِهِ فَفِي إقْرَارِ وَكِيلِ الطَّالِبِ إسْقَاطُ الْقَوَدِ وَذَلِكَ لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَفِي إقْرَارِ وَكِيلِ الْمَطْلُوبِ إيجَابُ الْقَوَدِ وَذَلِكَ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُمْضِيَ الْقَضَاءَ بِالْقَوَدِ إلَّا بِحَضْرَةِ الْوَرَثَةِ كُلِّهِمْ إذَا كَانُوا بَالِغِينَ لِتَمَكُّنِ شُبْهَةِ الْعَفْوِ، وَالصُّلْحِ لِمَنْ هُوَ غَائِبٌ مِنْهُمْ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ، وَالْقَاتِلُ وَارِثُهُ بَطَلَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَحَوَّلَ إلَيْهِ نَصِيبُ مُوَرِّثِهِ مِنْ الْقَوَدِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ إذْ الْإِنْسَانُ كَمَا لَا يَجِبُ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يُنْفَى، وَعَلَيْهِ حِصَّةُ سَائِرِ الْوَرَثَةِ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِمْ لِمَعْنًى فِي الْقَاتِلِ، وَهُوَ أَنَّهُ حَيٌّ بَعْضُ نَفْسِهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ عَفَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ، وَإِنْ كَانَ وَرِثَهُ ابْنُ الْقَاتِلِ بَطَلَ الْقَوَدُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الِابْنَ كَمَا لَا يَسْتَوْجِبُ الْقِصَاصَ عَلَى أَبِيهِ ابْتِدَاءً لَا يَبْقَى لَهُ عَلَى أَبِيهِ قِصَاصٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ بِحَالٍ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ نَصِيبَ الِابْنِ هَاهُنَا يَتَحَوَّلُ إلَى الدِّيَةِ كَنَصِيبِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَوْجِبَ الْمَالَ عَلَى أَبِيهِ وَيَسْتَوْفِيَهُ.
وَالْوَكَالَةُ فِي دَمِ الْخَطَأِ وَفِي الْعَمْدِ مِنْ الْجِرَاحِ الَّتِي لَا قِصَاصَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هَاهُنَا هُوَ الْمَالُ، وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَإِذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ أَمْكَنَ تَدَارُكُهُ، وَالْأَسْبَابُ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا وَعِنْدَ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ هَذَا دَيْنٌ كَسَائِرِ الدُّيُونِ فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ وَيَكُونُ إقْرَارُ الْوَكِيلِ بِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ نَافِذًا عَلَى مُوَكِّلِهِ.
وَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ عَمْدًا وَلَهُ وَرَثَةٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ فَلِلْكِبَارِ أَنْ يَقْتُلُوا الْقَاتِلَ قِصَاصًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ حَتَّى يَكْبَرَ الصِّغَارُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ مَالِكٍ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ، وَهُوَ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ الْوِلَايَةِ دُونَ الْوِرَاثَةِ، وَالْوِلَايَةُ لِلْكَبِيرِ دُونَ الصَّغِيرِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ لِلزَّوْجِ، وَالزَّوْجَةِ، وَالْإِخْوَةِ لِأُمٍّ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَأَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَاسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ إرْثًا، ثُمَّ وَجْهُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْقِصَاصَ أَحَدُ بَدَلَيْ الدَّمِ فَلَا يَنْفَرِدُ الْكَبِيرُ بِاسْتِيفَائِهِ كَالدِّيَةِ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَجْرِي فِيهِ مِنْ الْمُسَاهَلَةِ فِي الْإِثْبَاتِ، وَالِاسْتِيفَاءِ مَا لَا يَجْرِي فِي الْعُقُوبَاتِ وَلِأَنَّ هَذَا قِصَاصٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَلَا وِلَايَةَ لِلْكَبِيرِ عَلَى الصَّغِيرِ فَلَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا كَبِيرَيْنِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالِاسْتِيفَاءِ لِانْعِدَامِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْغَائِبِ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قِصَاصٌ وَاحِدٌ فَإِنَّ الْمَقْتُولَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ فَيَجِبُ بِمُقَابِلَتِهَا قِصَاصٌ وَاحِدٌ وَيَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا لِلْمَقْتُولِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيَةِ؛ وَلِهَذَا إذَا انْقَلَبَ مَالًا فَإِنَّهُ يُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ، ثُمَّ الْوَرَثَةُ يَخْلُفُونَهُ فِي اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ لَهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّطْرِ لِلْعِلَّةِ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَرِثُ جُزْءًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ سِهَامٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا يَسْقُطُ كَالنِّصْفِ، وَالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ وَبِمِلْكِ بَعْضِ الْقِصَاصِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ عَفَا أَحَدُهُمْ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِصَاصًا كَامِلًا لَمَا تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى أَحَدِهِمْ بَعْدَ عَفْوِ الْآخَرِ وَبِالْعَفْوِ يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا وَهَذَا الْكَلَامُ يَصِحُّ فِيمَا إذَا كَانَ الْقِصَاصُ وَاجِبًا لِلْمُوَرِّثِ فَمَاتَ وَوَرِثَهُ جَمَاعَةٌ، وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِي الْفَصْلَيْنِ وَلَا إشْكَالَ أَنَّ هَاهُنَا إنَّمَا يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ بَعْضَ الْقِصَاصِ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُلْجِمٍ لَمَّا قَتَلَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَهُ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهِ قِصَاصًا، وَقَدْ كَانَ فِي أَوْلَادِ عَلِيٍّ صِغَارٌ وَلَمْ يَنْتَظِرْ بُلُوغَهُمْ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ أُخِذَ قَالَ: لِلْحَسَنِ إنْ عِشْتُ رَأَيْت فِيهِ رَأْيِي، وَإِنْ مِتُّ فَاقْتُلْهُ.
إنْ شِئْتُ وَقَالَ وَاضْرِبْهُ ضَرْبَةً كَمَا ضَرَبَنِي وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِيَّاكَ، وَالْمُثْلَةَ، فَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ» وَلَا يُقَالُ إنَّمَا قَتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُرِيدًا مُسْتَحِلًّا لِقَتْلِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَتَلَهُ، وَهُوَ يَتْلُو قَوْله تَعَالَى {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ قَتْلُهُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَلَا يَصِيرُ بِهِ الْقَاتِلُ مُرْتَدًّا إنَّمَا ذَلِكَ لِلْأَنْبِيَاءِ خَاصَّةً وَاسْتِحْلَالُهُ كَانَ بِالتَّأْوِيلِ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمْوَالَهُمْ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ عَلَّقَهُ عُتْبَةُ فَقَالَ اُقْتُلْهُ إنْ شِئْت، وَأَخَّرَهُ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَوْ كَانَ مُرْتَدًّا لَمَا أَخَّرَ عَلِيٌّ قَتْلَهُ وَلَا يُقَالُ قَتَلَهُ حَدَّ السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ حَتَّى قَتَلَ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ السَّاعِيَ بِالْفَسَادِ بِقَتْلِ الْإِمَامِ لَا يُقْتَلُ قِصَاصًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْمُمَاثَلَةَ بِقَوْلِهِ فَاضْرِبْهُ ضَرْبَةً كَمَا ضَرَبَنِي، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ: قَتَلَ ابْنُ مُلْجِمٍ عَلِيًّا مُتَأَوِّلًا فَأُقِيدَ بِهِ فَدَلَّ أَنَّهُ قُتِلَ قِصَاصًا وَلَا يُقَالُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْكِبَارِ مِنْ وَرَثَتِهِ، فَقَدْ قَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ لَا تَقْتُلْهُ بَيْنَنَا فَإِنَّا لَا نَجْعَلُهُ سَوَاءً بَيْنَنَا، وَبِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ إبَاءِ بَعْضِ الْكِبَارِ، وَلَيْسَ لِلْبَعْضِ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ وَرُوِيَ أَنَّهُ مَثَّلَ بِهِ مَعَ نَهْيِ عَلِيٍّ إيَّاهُ عَنْ الْمُثْلَةِ فَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا قَتَلَهُ قِصَاصًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا قَالَ مَا قَالَ عَلَى وَجْهِ الْإِهَانَةِ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ لَا عَلَى وَجْهِ كَرَاهَةِ قَتْلِهِ قِصَاصًا، وَالْمُثْلَةُ مَا كَانَتْ عَنْ قَصْدٍ مِنْ الْحَسَنِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا رَفَعَ السَّيْفَ؛ لِيَضْرِبَهُ أَبْقَاهُ بِيَدِهِ فَأَصَابَ السَّيْفُ أَصَابِعَهُ وَبِهَذَا لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ إيَّاهُ اسْتِيفَاءً لِلْقِصَاصِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ حَقَّ الْكَبِيرِ ثَابِتٌ فِي اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْقِصَاصِ، وَلَيْسَ فِي اسْتِيفَائِهِ شُبْهَةُ عَفْوٍ مُتَحَقِّقٍ فَيَتَمَكَّنُ مِنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ لِلْوَرَثَةِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ فَإِنَّ وُجُوبَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَقْتُولِ، وَقَدْ خَرَجَ الْمَقْتُولُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَّا أَنَّ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مَقْصُودُهُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ يُجْعَلُ كَالْوَاجِبِ لَهُ حُكْمًا، وَهُوَ الدِّيَةُ فَأَمَّا مَا لَمْ يَحْصُلْ بِهِ مَقْصُودُ الْمَقْتُولِ فَيَجْعَلُهُ وَاجِبًا لِلْوَارِثِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ مُقَامَهُ، وَالْمَقْصُودُ بِالْقَوَدِ تَشَفِّي الْغَيْظِ وَدَفْعُ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ لِلْوَارِثِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَجِبُ لَهُ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ انْعَقَدَ عَلَى حَقِّ الْمَيِّتِ.
وَقَدْ خَرَجَ عَنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَهُ فَيَجِبُ لِلْوَلِيِّ الْقَائِمِ مُقَامَهُ كَمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْعَبْدِ إثْبَاتًا عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْعَبْدِ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا انْقَلَبَ مَالًا ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ حَوَائِجِهِ يَحْصُلُ بِهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْقِصَاصِ، فَإِذَا انْقَلَبَ مَالًا يَثْبُتُ حَقُّهُ فِيهِ وَأَيَّدَ مَا قُلْنَا قَوْله تَعَالَى {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} بَيَّنَ أَنَّ الْقِصَاصَ لِلْوَلِيِّ الْقَائِمِ مُقَامَ الْمَقْتُولِ إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَنَقُولُ: الْقِصَاصُ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ وَقَدْ ثَبَتَ سَبَبٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَإِمَّا أَنْ يَتَكَامَلَ فِيهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ يَنْعَدِمَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مُتَجَزِّئًا وَلَمْ يَنْعَدِمْ بِاتِّفَاقٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ تَكَامَلَ فِيهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا عَلَى أَنَّهُ تَعَدُّدُ الْقِصَاصِ فِي الْمَحَلِّ، وَلَكِنْ بِطَرِيقِ أَنَّهُ يَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالتَّزْوِيجِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْفَى مِنْ أَحَدِهِمْ الْقِصَاصَ فَإِنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ لِلْبَاقِينَ شَيْئًا وَلَا لِلْقَاتِلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ الْقِصَاصِ وَاجِبًا لَهُ لَكَانَ ضَامِنًا بِاسْتِيفَاءِ الْكُلِّ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا عَفَا أَحَدُهُمْ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بَعْدَ الْعَفْوِ الْمَالُ لِلْبَاقِينَ، وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَيَظْهَرُ حُكْمُ التَّجَزُّؤِ عِنْدَ وُجُوبِ الْمَالِ وَهَذَا؛ لِأَنَّا لَوْ أَثْبَتنَا الْقِصَاصَ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَ عَفْوِ الْآخَرِ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَدُّدُ الْقِصَاصِ الْوَاجِبِ فِي الْمَحَلِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ فِي الْمَحَلِّ فَأَمَّا قَبْلَ الْعَفْوِ لَوْ قُلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِيفَائِهِ لَا يَكُونُ مِنْ ضَرُورَتِهِ مُقَدِّرُ الْقِصَاصِ فِي الْمَحَلِّ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ جَمِيعَ الْقِصَاصِ وَاجِبٌ لِلْحَاضِرِ، وَلَكِنْ فِي اسْتِيفَائِهِ شُبْهَةُ عَفْوٍ مَوْجُودٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْغَائِبُ عَفَا، وَالْحَاضِرُ لَا يَشْعُرُ بِهِ وَعَفْوُ الْغَائِبِ صَحِيحٌ سَوَاءٌ عَلِمَ بِوُجُوبِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْغَائِبُ مَاتَ وَوَرِثَهُ الْقَاتِلُ لِسَبَبٍ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُهُ فَلِأَجْلِ الشُّبْهَةِ يَمْتَنِعُ الِاسْتِيفَاءُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ عِنْدَ صِغَرِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَفْوِ فَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ عَفْوُهُ بَعْدَ مَا يَبْلُغُ وَشُبْهَةُ عَفْوِهِ بِتَوَهُّمِ اعْتِرَاضِهِ لَا تَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الصَّغِيرِ، وَالْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ الْمِلْكُ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَكَامِلٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ الْمَوْلَيَيْنِ فِي الْأَمَةِ وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا بِانْفِرَادِهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَالسَّبَبُ هُنَاكَ الْقَرَابَةُ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي قِصَاصٍ كَانَ وَاجِبًا لِلْمُورِثِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ اسْتَحَقَّ جُزْءًا مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِالنَّصِّ وَذِكْرُ الْجُزْءِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي كَذِكْرِ الْكُلِّ فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْكُلُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ السَّبَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ كَامِلٌ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْكَبِيرَ هُنَاكَ يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْقِصَاصِ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا الْإِمَامُ هُوَ الْوَلِيُّ فِي نَصِيبِ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَخِ الْكَبِيرِ عَلَى الصَّغِيرِ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الْمَالِ فَكَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا الْوِلَايَةُ لِلْإِمَامِ، فَإِنْ شَاءَ صَالَحَ عَلَى الدِّيَةِ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي وَصِيِّ الْأَبِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْقَاضِي وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الصَّغِيرِ مَعْتُوهٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُغْمَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِبِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَفْوِ وَلَوْ كَانَ الْوَصِيُّ وَصِيَّ الْأَبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ مَعَ الْكِبَارِ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَرَادَ بِهِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ لِلْكَبِيرِ أَنْ يَقْتَصَّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَصِيٌّ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَصِيٌّ، فَهُوَ أَوْلَى أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَيْسَ لِلْكَبِيرِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ قَبْلَ بُلُوغِ الصَّغِيرِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ فَكَذَلِكَ مَعَ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ.
وَإِنْ قُطِعَتْ يَدُ الصَّغِيرِ عَمْدًا كَانَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَقْتَصَّ وَأَنْ يُصَالِحَ عَلَى أَرْشِ الْيَدِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا وَلَا أَنْ يَعْفُوَ وَفِي الصُّلْحِ رِوَايَتَانِ، وَكَذَا لَوْ قُتِلَ عَبْدُ الصَّغِيرِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَقِيَ وَأَمَّا الْأَبُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ الثَّابِتَ لِلصَّغِيرِ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ وَلَوْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ لِلصَّبِيِّ أَنْ يَرْجِعَ بِتَمَامِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِقُرْبَانِ مَالِهِ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَبِ مَالَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ اسْتَوْفَى بَعْضَ الْقِيمَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ تَمَامَ الْقِيمَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ تَمَامُ حَقِّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ.
فَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ عَمْدًا فَأَقَامَ أَخُوهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَأَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ ابْنًا فَإِنِّي لَا أُعَجِّلُ بِقَتْلِهِ حَتَّى أَنْظُرَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْقَاتِلُ وَأَبْلَوْا فِيهِ عُذْرًا لِأَعْلَمَ مِصْدَاقَهُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ أَمْرٌ مُسْتَعْظَمٌ إذَا نَفَذَ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، فَإِنْ أَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ ابْنًا، وَأَنَّهُ صَالَحَهُ عَلَى الدِّيَةِ، وَأَنَّهُ قَبَضَهَا مِنْهُ دَرَأَتْ الْقِصَاصَ حَتَّى أَنْظُرَ فِيمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى الصُّلْحَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ بَنَى الْقِصَاصَ وَأَنْكَرَ أَنَّ لَهُ ابْنًا فَيُقْبَلُ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْقِصَاصِ، فَإِنْ جَاءَ الِابْنُ وَأَنْكَرَ الصُّلْحَ كَلَّفْتُ الْقَاتِلَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الصُّلْحِ وَلَا أُجْبِرُ الْبَيِّنَةَ الَّتِي قَامَتْ عَلَى الْأَخِ؛ لِأَنَّ الْأَخَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الِابْنِ فِي حَقِّ الصُّلْحِ فَلَمْ تُقْبَلْ فِي حَقِّ الصُّلْحِ وَقُبِلَتْ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْقِصَاصِ وَبِمِثْلِهِ لَوْ كَانَا أَخَوَيْنِ فَأَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ قَدْ صَالَحَ أَخَاهُ الْغَائِبَ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَجَزْت ذَلِكَ وَلَا أُكَلِّفُهُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ الْقِصَاصِ، فَالْبَيِّنَةُ قَامَتْ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ فَيَتَضَمَّنُ النَّفَاذَ عَلَى الْغَائِبِ وَلِلْغَائِبِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ أَمَّا الْأَخُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ مَعَ قِيَامِ الِابْنِ.
وَإِذَا ادَّعَى بَعْضُ الْوَرَثَةِ دَمَ أَبِيهِ عَلَى رَجُلٍ وَأَخُوهُ غَائِبٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ عَمْدًا فَإِنِّي أَقْبَلُ ذَلِكَ وَأَحْبِسُ الْقَاتِلَ، فَإِذَا قَدِمَ أَخُوهُ كَلَّفَهُمْ جَمِيعًا أَنْ يُعِيدُوا الْبَيِّنَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُكَلِّفُهُمْ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي دَمٍ خَطَإٍ لَمْ يُكَلَّفُوا إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْحَاضِرَ لَا يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ لِتَوَهُّمِ الْعَفْوِ مِنْهُ لَهُمَا إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا يَدَّعِي لِلْمَيِّتِ وَيُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا فِي الْخَطَأِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحُقُوقِ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمَيِّتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ عَفَا عَنْ الْجَارِحِ صَحَّ وَانْقَلَبَ مَالًا تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ وَيُورَثُ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى صُلْحِ الْغَائِبِ، أَوْ عَفْوِهِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ لِلْمَيِّتِ لَمَا قُبِلَتْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ، وَإِذَا كَانَ حَقُّ الْمَيِّتِ فَأَقَامَ الْوَاحِدُ مُقَامَ الْجَمِيعِ فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ قَائِمَةً عَلَى الْخَصْمِ فَلَا يُكَلَّفُ إعَادَتَهَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمَيِّتِ مِنْ وَجْهٍ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ مِنْ وَجْهٍ وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ حَقَّ الْوَرَثَةِ يُكَلَّفُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ لَا يَقُومُ مُقَامَ الْكُلِّ فِيمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِمْ وَلَوْ كَانَ حَقُّ الْمَيِّتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يُكَلَّفُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ فَلَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ كَانَ الْمَصِيرُ إلَى الِاحْتِيَاطِ اسْتِعْظَامًا لِأَمْرِ الدَّمِ وَاجِبًا وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْأَحْكَامِ لِلِاسْتِقْصَاءِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا ادَّعَى الْعَفْوَ وَقَالَ لِي بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَأَجَّلَهُ الْقَاضِي أَيَّامًا وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إقَامَتِهَا فَإِنَّهُ لَا يُعَجِّلُ بِالْقِصَاصِ وَيَتَأَنَّى بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامًا هَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُ وَكِيلِ الْقَاتِلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِالْقِصَاصِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَلْحَقَ هَذَا بِالْحُقُوقِ الَّتِي هِيَ لِلْوَرَثَةِ حَتَّى إنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَرُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ إقَامَتِهَا فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ يُشْبِهُ حَقَّ الْمَيِّتِ لِمَا ذُكِرَ وَبَيَانُ أَنَّهُ يُشْبِهُ حَقَّ الْوَرَثَةِ أَنَّهُمْ لَوْ عَفَوْا عَنْ الْجَارِحِ فِي حَيَاةِ الْمُورِثِ جَازَ عَفْوُهُمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَقٌّ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ أُبْرِئَ عَنْ الدَّيْنِ فِي حَيَاتِهِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ، وَالْعَفْوِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَالْقِصَاصُ مِنْ وَجْهٍ كَالْمُورِثِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ لِلْوَارِثِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ، وَمِنْ وَجْهٍ هُوَ ثَابِتٌ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَفِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ يَجْعَلُهُ كَالْمَوْرُوثِ وَفِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ تَجْعَلُهُ كَالْوَاجِبِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْتِدَاءً فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مِنْهُمَا خَصْمًا عَنْ الْآخَرِ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّ مُوجِبَهُ الْمَالُ، وَهُوَ مَوْرُوثٌ لِلْوَرَثَةِ عَنْ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَا تَفَرَّغَ عَنْ حَاجَتِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ يُنْتَصَبُ كُلُّ وَارِثٍ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ، وَعَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فِي إثْبَاتِهِ عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ لَيْسَ مَبْنَاهُ عَلَى التَّغْلِيظِ بِدَلِيلِ قَبُولِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ.
وَلَوْ حَضَرَ الْوَرَثَةُ جَمِيعًا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ عَلَى رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْحَاضِرِ وَقُضِيَتْ عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ، فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ كَلَّفَهُمْ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْقَتْلِ عَلَيْهِ ثُبُوتُهُ عَلَى الْغَائِبِ، وَإِنْ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِهِ عَلَى الْغَائِبِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقَوَدِ مِنْ الْحَاضِرِ كَمَا لَوْ عَفَا الْوَرَثَةُ عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلِينَ، أَوْ صَالَحُوهُ عَلَى مَالٍ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا الْحَاضِرَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاتِلِينَ يَهْرُبُونَ عَادَةً فَقَلَّ مَا يُظْفَرُ بِهِمْ جَمِيعًا فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَبَبِ غَيْبَةِ مَنْ غَابَ أَدَّى ذَلِكَ إلَى سَدِّ بَابِ الْقِصَاصِ، وَالْإِضْرَارِ بِصَاحِبِ الْحَقِّ (أَرَأَيْت) لَوْ مَاتَ الْغَائِبُ أَوْ فُقِدَ فَلَمْ يُوقَفْ عَلَى أَثَرِهِ أَكَانَ يَمْتَنِعُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ هَذَا الْحَاضِرِ وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا اسْتِيفَاءٌ مَعَ الشُّبْهَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْغَائِبِ حُجَّةٌ يَدْرَأُ بِهَا الْقَتْلَ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ حُجَّةٍ تُقْبَلُ مِنْ الْغَائِبِ إذَا حَضَرَ إلَّا وَهِيَ مَقْبُولَةٌ مِنْ الْحَاضِرِ لَوْ أَقَامَهَا.
وَلَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ أَقَامَا شَاهِدَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُمَا عَمْدًا فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَقَتَلَاهُ، ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا قَالَ: قَدْ شَهِدْت الشُّهُودُ بِالزُّورِ وَأَبُونَا حَيٌّ غَرَّمْته نِصْفَ الدِّيَةِ وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا أَنَّهُمَا تَعَمَّدَا قَتْلًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِقْرَارُهُمَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا فَيَلْزَمُهَا الْقِصَاصُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يُعَامَلُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّمَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصْدُقُ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَضَاءُ الْقَاضِي شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي إنَّمَا يَكُونُ شُبْهَةً فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا قُضِيَ بِهِ فَأَمَّا فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَلَا يُعْتَبَرُ قَضَاءُ الْقَاضِي كَمَا لَوْ رَجَعَ أَحَدُ شُهُودِ الزِّنَا بَعْدَ مَا رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ وَلَا يَصِيرُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِالرَّجْمِ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَأَصْحَابُنَا قَالُوا: إنَّهُمَا قَتَلَاهُ بِشُبْهَةٍ، وَالْقَتْلُ بِشُبْهَةٍ يُوجِبُ الْمَالَ دُونَ الْقِصَاصِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا قَتَلَاهُ بِنَاءً عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُمَا بِالْقَوَدِ وَهَذَا قَضَاءٌ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ مُبِيحًا لَهُمَا الْقَتْلَ فَظَاهِرُهُ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا كَانَ مُبِيحًا لِلْوَطْءِ فَطَاهِرُهُ يُورِثُ شُبْهَةً وَهَذَا الظَّاهِرُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ كَمَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا كَانَ حَقِيقَةً مُبِيحًا فَظَاهِرُهُ يُمَكِّنُ شُبْهَةً فِي الْمَحَلِّ، وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ تُؤَثِّرُ فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ كَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ حُرْمَتَهَا عَلَيْهِ وَهَذَا بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْقَضَاءِ بِالزِّنَا هُنَاكَ لَا تُبِيحُ شُبْهَةً مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فَكَذَلِكَ ظَاهِرُهُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً، ثُمَّ الْفَرْقُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ أَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْقَضَاءِ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا لَمَّا انْتَزَعَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ مِنْ كَلَامِهِ بِرُجُوعِهِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ سَابِقًا عَلَى الْقَضَاءِ هُنَاكَ فَأَمَّا هُنَا، فَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْقَوَدِ مُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ وَذَلِكَ وُجِدَ مِنْهُمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَيَكُونُ صُورَةُ الْقَضَاءِ شُبْهَةً.
وَيَتَّضِحُ كَلَامُنَا فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ وَجَحَدَ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُمَا بَاشَرَا الْقَتْلَ، وَالْجَاحِدُ مِنْهُمَا مُحِقٌّ حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ فَيَكُونُ هَذَا أَقْوَى فِي التَّأْثِيرِ مِنْ الْخَاطِئِ إذَا شَارَكَ الْعَامِدَ فِي الْقَتْلِ وَهُنَاكَ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُنَا أَوْلَى، وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ وَجَبَ عَلَى الرَّاجِعِ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ لِإِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَمَا يَجِبُ بِالْإِقْرَارِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ قَتَلَ الْقَاتِلَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَهُمَا عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ لَهُمَا بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَقَرَّ هُوَ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَنَّ الْأَبَ حَيٌّ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ عَلَيْهِ شُبْهَةُ قَضَاءٍ مَانِعٍ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ هُوَ شَيْئًا، وَلَكِنَّ الْآخَرَ قَالَ: قَدْ كُنْتُ عَفَوْتُ، أَوْ كُنْت أُرِيدُ أَنْ أَعْفُوَ، أَوْ كُنْتُ صَالَحْتُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى أَخِيهِ؛ لِأَنَّ إقْرَاره بِذَلِكَ حِينَئِذٍ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَذِبًا إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي أَنَّهُ يُلْزِمُهُ شَيْئًا بِقَوْلٍ قَالَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى أَخِيهِ.
وَإِنْ كَانَ أَخَذَ غَيْرَ حَقِّهِ مِنْ قِبَلِ الشَّرِكَةِ يَعْنِي أَنَّهُ إذَا كَانَ هَذَا بَعْدَ مَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لَهُمَا عَلَى الْقَتْلِ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ، ثُمَّ هُوَ ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ قَدْ وَجَبَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْقَوَدِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ وَعِنْدَهُمَا الْوَاجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُ الْقَوَدِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَجْلِ الشَّرِكَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ إلَّا بِاسْتِيفَاءِ مَا بَقِيَ وَفِعْلُهُ فِي نَصِيبِهِ اسْتِيفَاءٌ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، فَإِذَا خَرَجَ بَعْضُ فِعْلِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ خَرَجَ جَمِيعُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي وَبَعْدَ مَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ فِعْلِهِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مُوجِبًا بِإِقْرَارِ أَخِيهِ، فَإِنْ أَقَامَ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ بَيِّنَةً عَلَى هَذَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ صَالَحَ عَلَى كَذَا قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَ الْآخَرَ، أَوْ كَانَ عَفَا أَجَزْت ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي يُقِيمُهَا مَنْ هُوَ خَصْمٌ كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ الْخُصُومِ، ثُمَّ الْقَاتِلُ يَكُونُ ضَامِنًا لِلدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاشَرَ الْقَتْلَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَدْ سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُ لِلشُّبْهَةِ حِينَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِصُلْحِ أَخِيهِ وَعَفْوِهِ وَيَجِبُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ بِعَفْوِ أَخِيهِ انْقَلَبَ نَصِيبُهُ مَالًا عَلَى الْقَاتِلِ، وَقَدْ اسْتَوْجَبَ الْقَاتِلُ عَلَيْهِ كَمَالَ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ أَيْضًا فَيَكُونُ.
النِّصْفُ قِصَاصًا، فَإِنْ كَانَ قَتَلَ بَعْدَ عَفْوِ أَخِيهِ، أَوْ صُلْحِهِ وَبَعْدَ مَا عَلِمَ بِأَنَّ الدَّمَ قَدْ حَرُمَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ وَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ كَانَ انْقَلَبَ مَالًا لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ فَيُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.